الطهوّ من أجل السلام

.كل الكائنات على وجه الأرض تأكل.. جميعها تحتاج إلى الطعام  لتنمو ، ولكن ، وحده الإنسان من يطهو طعامه

الطهوّ من أجل السلام ! يالها من  جملة ساحرة ، تضعك تلقائياً في موقع المسؤوليّة و المحبّة الخلّاقة ، هل توافقونني الرأي ؟

في آذار عام 2020 ، قدّمنا ، في مدينة فلورينس الإيطالية ، خلال مؤتمر حول “بناء السلام من خلال التراث”  ، نتيجة بحثنا الذي أجريناه في ألمانيا عن الطبخ السوريّ باعتباره نوعاً من أنواع التراث اللا مادّيّ

لقد أكّدنا في بحثنا ، على إمكانية بناء جسور السلام بين الشعوب ، من خلال قيم الانفتاح وكرم الضّيافة ، وأن الاجتماع حول المائدة وطهو المأكولات التراثية أو التقليدية ،  عوامل إلزامية يتوجب على المعنيين بالمشاريع ذات الطابع الثقافيّ أخذها بعين الاعتبار ، وذلك عند التعامل مع الآتين من مجتمعات من خارج البلاد ، فهي نهج حميميٍّ ينطوي على القبول والتقدير ، وفيه دعوة للتقارب والانفتاح على بعضنا البعض ، وخلق الظروف المساعدة على بناء حياة اجتماعية ، واقتراح  صداقات متينة ، ( فك شيفرة الوجبة,ماري دوغلاس 1972) .  تُعتبر وجهة نظر دوغلاس هذه عن الطعام ، في صميم هذه الدراسة التي قمنا بها ( يارا معلا و غايلي ماك بيرسون ) ، حيث أن ممارسة الطهوِّ  والانخراط في مثل هذه التجربة الثقافية ، يربط المجتمعات معاً ويُعيد تشكيل الهويّات في المغتربات ، وفقاً  لمشارك سوريٍّ في مبادرة الطهوّ التراثيّ التي نظمتها منظمة ” أوبر دن تيليراند” في برلين ألمانيا -2019 – 2016

 اعتُبِر مشروع أوبر دن تيليراند للاندماج كبنية اجتماعية وتحوّل مفتوح ، يأخذ بالاعتبار كلّاً من السوريين وأهل برلين الذين يعملون بالتزامن وكلاء للتغيير والاستمرارية،  كما يقومون بإعادة بناء الهويّات الاجتماعية ، ومن خلال تحليل ذلك باستخدام نظريات جوزيف ناي قادنا التحليل إلى معاينة النجاحات الرئيسية لهذا المشروع والنتائج المستمدة منه

 الالتفاف حول مائدة العشاء ، زاد من احتمال استعداد الناس للمشاركة  والتعاون ، وتبادل الكثير من الثقافات والمأكولات بين أشخاص من مختلف أنحاء العالم. إنّ اللقاء حول مائدة الطعام يخلق جوّاً من الألفة وقوّة التأثير بما يكفي لدفع المشاركين فيه إلى مشاركة بعضهم بعضاً بالقصص والقيم  والأفكار ، والبوح ببعض المكنونات الحميمة ، حيث يستعدّ اللاجئون السوريون الذين يحضرون جلسات الطهوّ تلك ، للاستماع إلى ماسيقوله السكّان المحلّيون حول القيم والأفكار الألمانية . توفّر هذه العملية ذات الاتجاهين ،  قناة للمناقشة وتبادل المعلومات حول أنماط الحياة والمعايير المختلفة ، كما تتيح تفاهماً متبادلاً وفائدة تنسحب على مختلف القضايا خارج إطار تبادل مهارات الطهوّ ورواية القصص

.يُشكّل الطهوّ تراثاً لا ماديّاً و بنية ثقافية بالنسبة للسّورييّن

تعتمد الأساليب المستخدمة لإدراج الطهوّ على قائمة التراث اللامادّيّ ، بوصفه شكلاً من أشكاله ، على التنقّل بين الأدبيات الأكاديميّة متعدّدة التّخصّصات ،  وتناقش قوّة تأثيره أثناء تطبيق نظرية التغيير . إنّ الدراسة التي قدّمناها في مقاطعة أوبر دن تيليراند ، كانت عبارة عن بحث في مدى مساهمة الطعام والطهوّ في عملية التكامل . تم إجراء سلسلة من المقابلات شبه المُنظّمة مع موظفين من أوبر دن تيلراند ، بالإضافة  إلى سورييّن وأبناء برلين المشاركين في تنظيم هذه المبادرة ،كان الطرح أثناء المقابلات مُعمّقاً ومفتوحاً ، وناقش نظرية التغيير ، حيث من شأن تجربة ثقافية مُستدامة  الإسهام في بناء التفاهم والثقة والقبول والاحترام المتبادل . تمّ تحليل البيانات عبر استخدام الإطار الفوقي ، وذلك أثناء استخدام مفاهيم من قبيل القوّة الناعمة والدبلوماسية الثقافيّة لدعم العمل الميدانيّ . تُقدّم الدراسة أدلة على إسهام التراث غير المادّيّ في التعبئة أيضاً ، من خلال نقاشٍ  قائمٍ على التخاطب والمشاركة ، ذلك التراث الذي غالباً ما يتمّ تجاهله لصالح التراث المادّيّ ، لصالح سياسات ثقافيّة دوليّة أكثر فاعليّة لمواجهة المشكلات الاجتماعيّة الكبيرة الحاليّة لضمان اندماج ناجح للاجئين في أوروبا . وتُخلص الدراسة إلى أنّ تطوير هذه المهارات الرمزيّة يمكن أنّ يؤدّي إلى المشاركة الاجتماعيّة والثقافيّة والشراكة كشرطٍ مُسبق للتكّامل

تُزوّد الثقافة الناس بأدوات اجتماعيّة لفهم تصرفات الآخرين ودوافعهم ، و الاندماج في التجربة الثقافيّة والفنيّة كما تزيد من فهم الناس لمعنى الهوية وعوامل تشكّلها والجماعة ، كما يمكن أنّ تؤدّي إلى زيادة الوعيّ بالرؤى المُشتركة للناس ، ومجموعة القيم والمواقف والمعاني والمخاوف والآمال , مع إمكانيّة إحداث تحوّل في طريقة تفكير المجتمعات ومواقفها تجاه التكامل والتراث

لتسهيل ودعم عملية الاندماج ، يجب الوصول إلى نتائج شاملة حول تأثير التراث الثقافيّ ودوره في معالجة التحدّيات الاجتماعيّة الأخيرة ،كالهجرة واللاجئين في أوروبا ، واقتراح تدابير مُغايرة تُحقّق الاندماج، وتتجاوز الإجراءات الحاليّة التي تنحصر في تعلّم اللغة وسوق العمل

انطلاقاً من هذه النتائج التي خلُصت إليها الدراسة أعلاه ، نستنتج إمكانية تطبيق المشروع في مجتمعات متنوعة ضمن بلد واحد ، وسوريا مثالاً ، بل نجد أن الحاجة إلى تطبيقه الآن باتت أكثر إلحاحاً ، سيّما وأن ماشهدته سوريا خلال الحرب أوجد هجرات داخلية أيضاً ، وانتقالات بين المدن والقرى ، حيث حمل المهاجرون داخلياً معهم  تراثهم المحلّي ومأكولاتهم التراثيّة إلى مكان استقرارهم الذي يتميّز بالضرورة بتراث محلّي ، ونحن نعلم مدى التنوّع واختلاف الذائقة من منطقة لأخرى ، لذلك فإن الشروع بتطبيق هكذا مشروع سيضمن حفظ هذا التراث من الضياع عبر نقله وتوثيق أنشطة إحيائه عبر الطهوّ وتشجيعها ، كما سيُعيد تعريف السوريين ببعضهم البعض ، عبر تبادل خبرات الطهوّ والتعرّف على التراث الغذائي لبعضهم البعض ، كما سيخلق جوّاً من الألفة ويُقرّب المسافات ، و ينشر ثقافة قبول الآخر وتفهّمه

بقلم : الدكتورة يارا معلا
تدقيق لغوي: الاستاذة أميمة ابراهيم

Leave a Reply

Fill in your details below or click an icon to log in:

WordPress.com Logo

You are commenting using your WordPress.com account. Log Out /  Change )

Facebook photo

You are commenting using your Facebook account. Log Out /  Change )

Connecting to %s

Website Built with WordPress.com.

Up ↑

%d bloggers like this: