الطاقة الشمسية و الكهروضوئية


تُعدّ الطاقة الشمسية إحدى أنواع الطاقات المُنتجة لعصب الحياة (الكهرباء)، والتي شاعت تحت مُسمّى الطاقات البديلة لأشكال الطاقة التقليدية كالنفط والغاز، وفي بعض البلدان الطاقة النوويّة. لكن يختلف الأمر بالنسبة للبلدان النامية، حيث يصحّ تسمية هذه الأشكال الجديدة من الطاقة بالطاقة المُساعدة، ذلك أنّها غير قادرة بسبب الظروف الصعبة المحيطة، أن تكون بديلاً كاملاً عن النفط والغاز، على الأقل في المدى المنظور والمتوسط، هذا يُدلل على أهمية السير بهذا الطريق لخلق طاقات مُساعدة ومتنوّعة من أجل تقليص الاعتماد على مصادر لاتزال السبب في خوض حروب إقليميّة ودولية باهظة الكُلفة على مستهلك الطاقة الأخير، أي المواطن

عندما يتعلّق الأمر بالطاقة الشمسيّة، فإنّنا نرى توافر الفرص لأيّ دولة في ثلاثة مجالات رئيسيّة : حقول شمسيّة واسعة النطاق، تطبيق الطاقة الشمسيّة اللامركزيّة والعملاء من القطاع الخاص الذين يقومون بتركيب الألواح الشمسيّة على أسطح منازلهم. هناك طرقٌ مُختلفة لمساعدة المواطنين على هذا الانتقال إلى مشهد طاقة أكثر لامركزيّة و إتاحة الفرصة لإنتاج الكهرباء المُتجدّدة الخاصّة بهم

حقول شمسيّة واسعة النطاق

تتمثّل الفرصة الأولى في تطوير حقول كهروضوئيّة واسعة النطاق، خاصةً وأنّه يمكن الاستفادة من الوضع الحاليّ حيث تتوافر النيّة للقيام  بإعادة الإعمار، و تمكين البنيّة التحتيّة الحاليّة بما يتناسب و إيجاد  حقول كهروضوئيّة، من الأمثلة على ذلك حقول الطاقة الشمسيّة ٥ ميغا واط في مزرعة الرياح پارك ساينوغ في ويلز، والتي أصبحت  في عام 2017 جاهزة للعمل

مثال آخر هو تطوير حقول هارينغڤليت في هولندا، وهي حديقة هجينة للطاقة المُتجددة حيث يتّم تطوير ستة توربينات رياح وألواح شمسية وبطارية معاً، وربطها بالشبكة عبر نفس الوصلة، وقد تمّ تشغيل هذه الحقول المُختلطة للطاقة المُتجدّدة في عام 2020

مثال أخر من بولندا، حيث تمّ إنشاء طريق للدرّاجات الهوائيّة وغيرها، يعتمد على مبدأ تخزين الطاقة الشمسيّة وتحويلها لمصدر إنارة بلون أزرق ناعم خفيف وكافٍ لإنارة الطريق ل10 ساعات

إنتاج الطاقة اللامركزيّ

بالإضافة للاستثمار في الطاقة الشمسيّة على نطاق واسع، تستطيع الدول بمؤسساتها الخاصّة بإنتاج الطاقة، تسهيل إنتاج الطاقة اللامركزيّة على مستوى الاستهلاك للعملاء من الأفراد والشركات، الأمر الذي سيخلق خدمات طاقة جديدة حيث تُقدّم الدول حلولاً تلبي احتياجات العملاء وتُمكّنهم من إنتاج واستهلاك كهرباء عبر الخلايا الشمسية الخاصة بهم

العملاء ينتجون الكهرباء الخاصّة بهم

اعتماداً على الألواح المحليّة، ويمكن دمج أنظمة التخزين المنزليّة مع أنظمة الألواح الشمسيّة، الأمر الذي سيُقلّل من استخدام الكهرباء اعتماداً الشبكة بأكثر من 30٪ غالباً، ومن هنا أصبحت مؤسسات الدولة الخاصّة بإنتاج الطاقة في البلدان الأوربية لاعباً مُهمّاً في مجال مُساعدة عملائها المحلييّن على إنتاج الكهرباء المّتجدّدة الخاصّة بهم مباشرة من خلال أسطح منازلهم، وذلك عبر ارشادات و نصائح يتّبعونها لاختيار أنظمة الألواح الصحيحة

تنمية إنتاج الطاقة الشمسيّة

في عام 2017، تم تركيب ألواح تُنتج أكثر من 100 غيغا واط من الطاقة الشمسيّة حول العالم، حيث أصبح إنتاج الكهرباء يعتمد على  حصّة مُتزايدة من الطاقة الشمسيّة. و هذا أمر مُبَشِّر لإنّه يُشير إلى توافر خبرات و نتائج نستطيع الاستفادة منها عمليّاً لا نظريّاً فقط، وذلك عبر زيارات استطلاعيّة و بحثيّة لأماكن تواجد تلك التجارب مثلاً

كيف تُؤثر الطاقة الشمسيّة على البيئة ؟

ينشأ التأثير البيئي، بشكل أساسي، عند تصنيع الألواح الشمسيّة، فتشغيل محطات الطاقة الشمسيّة خالٍ من الانبعاثات، وبالتالي فإن إنتاج الألواح وزيادة الاعتماد على الطاقة المُتجدّدة سيؤدي إلى تأثير  أقل سلبيّة على البيئة، ولكن يوجد أيضاً استخدام للموارد أكثر كفاءة وعمليات إنتاج أكثر جودة، وكمثال على أسلوب و طريقة يعتمدها خبراء ناجحين في مجال إنتاج الطاقة الشمسية، قيامهم بدراسة وتحليل دورة الحياة، وذلك لمراقبة الجوانب والآثار البيئيّة للطاقة الشمسيّة، ما يمنحنا بيانات بيئيّة لكل من الأنظمة الكهروضوئيّة الحاليّة للاستخدام الخاص والمُتغيّرات واسعة النطاق

لذلك ينبغي على كلّ مؤسسة معنية بإنتاج الطاقة في أيّ دولة  أن تضع العديد من الشروط الصارمة لدى اختيار مُورّدي الألواح الشمسيّة والمُحوّلات. إن التشديد على المُطالبة بالجودة والديمومة هو أحد تلك الشروط، وينطبق الشيء نفسه على الظروف التجاريّة والقانونيّة. يجب على المُورّدين الامتثال لقواعد السلوك الأخلاقيّة الخاصّة والتي تضمنها الدولة لمواطنيها و شركاتها أيضاً

إنّ اعتماد الطاقة المُتجدّدة كمصدر لتوليد الطاقة على نطاق واسع، مطلوب لتحقيق هدف البيئة النظيفة، و تحقيقه يتطلب توافر مساحات واسعة، سواء على الأرض أو في البحر

تتناوب الألواح الشمسية وخطوط الزراعة – مثال من هولندا

– يتكوّن الحقل من صفوف من الألواح الشمسيّة تتخلّلها خطوط مزروعة بمحاصيل مختلفة ، تعتمد أسلوب الزراعة العضويّة، الأمر الذي يعني تركيب ألواح الشمسيّة بعدد أقل بكثير من المعتاد لكل هكتار ، كما تقول آن ماري شوتين ، رئيسة قسم تطوير الطاقة الشمسيّة في هولندا. نحن نستخدم الألواح الشمسيّة من كِلا الوجهين للتأكّد من الاستفادة الكاملة والكافية من مصدر الضوء . يلتقطون الضوء المُنعكس من التربة والمحاصيل والصفوف المُجاورة، ويستخدمونه لإنتاج الطاقة الشمسيّة، بالإضافة إلى ذلك، يتمّ تدوير الألواح بحيث تتبع أشعة الشمس، ما يؤدي إلى تعاظم الإنتاج. من المُتوقع أن تبلغ سعة الحقول 0.7 ميغا واط

تتبّع الشمس

خلال أربع سنوات من المشروع سيمبزون الهولندي المذكور اعلاه، تمّ تطوير خوارزميّة لتتبّع الطاقة الشمسيّة، وذلك من قبل منظمة الابتكار، والغرض من ذلك هو متابعة الإنتاج الزراعي وإنتاج الطاقة ودراسة تأثير خطوط الزراعة والتنبّؤات الجويّة ( التغيّرات المناخية ) وأسعار الطاقة وظروف التربة، وإذا أمكن، سيتمّ تحسين الخوارزميّات بالتعاون مع الشركة السويدية الوطنية لإنتاج الطاقة ڤاتينفال مع آيريس هوغيسكول 

بالإضافة إلى ذلك، تتمّ مراقبة تأثير نظام التتبّع الشمسيّ على المحاصيل والأمراض وقابلية استخدام المزارع من قبل آيريس هوغسكول، أكبر مزرعة عضويّة في هولندا، و هيموس، وهي مؤسّسة تعمل من أجل الانتقال إلى الزراعة التي تأخذ حماية البيئة في عين الاعتبار أكثر . يتمتّع الطرفان بخبرة واسعة، بالفعل، في مجال زراعة الخطوط

الطاقة الشمسيّة في مجال انتاج الوقود

حقّقت الصين ابتكاراً مُذهلاً وذلك بتحويل الطاقة الشمسيّة إلى وقود سائل، من خلال مشروع يُنتج منتجاً سائلًا يحتوي على 99.5٪ من الميثانول ، وفقًا للتلفزيون الصيني. النجاح،الذي تحقّق في يناير عام 2020 ، وحصل مُؤخرًا على تغطية الاعلامية، هو المحاولة الأولى، على النطاق العالمي،  للتجميع المباشر للوقود الشمسيّ. وقال التقرير، نقلاً عن خبراء، أنّ المشروع، إذا تمّ تشغيله بكامل طاقته، يُمكنه إنتاج 1500 طن من الميثانول سنويّاً، وأنّه يستهلك 2000 طن من ثاني أُكسيد الكربون ويُولّد 15 مليون كيلوواط / ساعي من الكهرباء باستخدام الطاقة الشمسيّة

والجدير بالذكر أنّ الطاقة الإنتاجيّة السنويّة للميثانول ، تبلغ في الصين حوالي 80 مليون طن، وفي عام 2019، شكّلت انبعاثات ثاني أُكسيد الكربون من الصين  29 في المائة من انبعاثات ثاني أكسيد الكربون العالمية.  إذا تمّ استخدام الوقود الشمسيّ لتصنيع الميثانول، فيُمكن تقليل انبعاثات مئات الملايين من الأطنان من ثاني أكسيد الكربون كل عام

بعد هذه الجولة السريعة والبسيطة حول العالم، والتي تناولت مجال تطوير استخدام الطاقة الشمسيّة، يهمّنا كفريق آينيسيس أنّ نُشدّد على أهمية حوكمة الدولة لهذا القطاع، و تعاونها مع القطاع الخاص بحيث تُقدّم للمواطنين أفضل الأنظمة، و تمنع  توريد الألواح الرديئة

فعندما تحتكم الدولة إلى القانون في مجال إنتاج الطاقة، تستطيع  تقديم الخيارات الأفضل للسوق الوطنيّة، و تعطي الخيارات الصحيحة للمواطن،  مما يُعزّز الثقة بين الحكومة و المواطن، ويمنع السوق الفاسدة من خداع المواطن و هدرالمال العام،  بالإضافة لحماية المستهلك

هذا ويجب التنويه إلى أن الخبراء في مجال الطاقات المتجددة يتضاربون بآرائهم حول جدوى الإنتقال المباشر والسريع من استخدامات أنواع الطاقة التقليدية إلى الطاقات المتجددة على اعتبار أن الثانية تستخدم الأولى في دورتها الإنتاجية (تصنيع البطاريات، والألواح وغير ذلك من المواد التي يجب تصنيعها بالمعامل والتقنيات المعهودة). هذا يعني أن الجدوى البيئية قد تكون غير مثبتة بشكل كامل وعلى المدى الطويل

دمتم و دامت سوريا بكلّ خير

الفريق المُؤسّس لآينيسيس

تدقيق لغوي: الاستاذة أميمة ابراهيم

ماذا عن المهارة السورية بالنفخ في الزجاج؟

قد انتابتني السعادة وغمرني شعور بالفخر كسورية عندما قرأت في عدة مجلات علمية خاصة بصناعة الزجاج السويدي، ذلك أن موطن حرفة صناعة الزجاج الأول هو سوريا. وهو ما شجعني للقيام برحلة سياحية لمنطقة مشهورة بمعامل صناعة الحرف اليدوية للزجاج على الطريقة السورية الأولى (النفخ في الزجاج)، في مقاطعة سمولاند. في سمولاند، المجتمع الذي بُنيت فيه هذه الحرفة و توسعت اكتسبت إسم مملكة الزجاج، فيها أقدم معمل لصناعة الزجاج في السويد “كوستابودا” ولا تزال تستخدم الطريقة الحرفية اليدوية الأولى. المنطقة واسعة تقع في جنوب وسط السويد غنية بالبحيرات و رمالها و غاباتها التي استغلت منذ القدم لصناعة الزجاج كما قام سكانها على استغلال الطبيعة و شلالات المياه فيها لتوليد الطاقة للمعامل فيها.

فكرة بناء معمل صناعة الزجاج بالنفخ تبلورت في عام 1736.. بعد استكمال شروط البناء و الموافقات نشأ أول مصنع في السويد عام 1742.  تستمر هذه الصناعة حتى يومنا هذا بالتوسع  و يصل عدد زوارها الى مليون زائر سنوياً فقط في فصل الصيف. عند زيارتك للمنطقة التي يقع فيها المعمل تستطيع زيارة المعمل الأول وفيه قسم يعد كمتحف لاولي الادوات و المكاتب التي تم استخدامها و للزجاج المصنوع.  تستطيع زيارته دون آجر.ولمن يرغب من الزوار بمعرفة أعمق  يستطيع حجز موعد مخصص  لجولة معرفية حيّة داخل المعمل مقابل دفع أجر بسيط.  يرافقك في الجولة مرشد/ة سياحية تتلو عليك معلومات غنية عن تاريخ المعمل و طريقة عملهم، بينما أنت تستمتع أثناءها في مشاهدة حية لصنع قطعة زجاجية من بداية  مراحلها وحتى نهايتها ( انظر الى الصور المرفقة) .  في قسم أخر تستطيع أيضاً حجز موعد خاص لك مقابل أجر لتتعلّم قليلاً مبادئ الحرفة و تجرّب بنفسك يوماً أو يومين صنع الزجاج كنوع من الاستجمام و صناعة الفن و ربما تتشجع على دخول مدرسة مهنية لتتعلم الحرفة فعلاً.  و لمَ  لا؟!  ففي السويد يوجد ثانوية لتعليم حرفة صناعة الزجاج و فنّه.. تستطيع أيضاً حجز ساعة مقابل أجر لصنع قطعة زجاجية تحت إشراف و مساعدة أحد الحرفيين و تنفخ زجاجتك بنفسك و تشكل الشكل الذي يروق لك لتأخذ لاحقاً قطعتك الفنية التي صنعتها كذكرى من هذه الزيارة.. كنت ارى العائلات و الأطفال خاصة يستمتعون في هذه المشاركة وأعلم أن الأجور التي دفعوها تدعم الحرفة و نقابة الحرفيين و تسعد الزوار لتقرّبهم من منتجات بلدهم للحفاظ على إرثهم الوطني.. وإلى نفس المساحة الجغرافية في سمولاند  تستطيع الدخول دون أجر لمشاهدة غاليري يُقام فيها على الدوام عروض اعمال فنية لفناني الزجاج السويدين

في نفس المنطقة و التي كانت مجتمع وقرية صغيرة و بسيطة تحوّلت الى اجمل مكان سياحي يكتظ بالأفكار الجميلة التي تستثمر المكان لدعم الحرفة. فهناك محلات لبيع الزجاج بأسعار منافسة  لباقي الأسواق في المدن السويدية وهناك سفاري بالقرب منها تقصده العائلات التي تود  ترفيه أطفالها و التعرّف على حيوانات الغابة عن قرب في نفس وقت زيارة معامل الزجاج و هناك هوتيل كل مافيه من الزجاج و كأنك تسكن في غرف زجاجية و إقامته مميزة و جميلة. إضافة إلى محلات أخرى افتتحت لتعرض منتجاتها بأرخص من باقي المدن، كعامل جذب للزوار الذين سيشترون منتج المنطقة بسعر أقل من بقية الأسواق مما يوفّر على الزائر و تمنحه مكسب أكبر من خلال زيارته للمعمل

تحدثنا المقالات المعرفية كما  شرحت أيضاً لنا المرشدة السياحية هناك، أنه أثناء الثورة الصناعية و دخول معامل اوتوماتيكية لصناعة الزجاج تراجعت الحرفة صناعة الزجاج، كما غيرها من الحرف التي تتطلب جهداً و وقتاً للصناعة. فكان الزجاج الصناعي أرخص. هذا دفع نقابة الحرفيين بالتعاون مع الدولة على ايجاد افكار ابتكارية لدعم الحرفة واستمرارها لتنافس الصناعي. فجلبوا فنانين مشهورين من بلدهم و أعطوهم مهمة خلق أساليب جديدة لتقوية هذه الحرفة فقام هؤلاء الفنانون بوضع رسمهم على الزجاج و توقيعهم وخلق أشكال و صناعات تدخل في منتجات جديدة مما ساعد على خلق لهفة عند الشعب لاقتناء هذه المنتجات و منها ما أصبح سعره مقبولاً لاقتنائه  في منزل سويدي بسيط 

طوال زيارتي هناك سكنني تساؤل تلقائي عن وضع هذه الحرفة في بلدي الأم  وكيفية انتشارها و الدعم القائم لها. خاصة ان ذاكرتي عنها لا تحمل الا صور الزجاج المنتشر في الأسواق من الصناعة المستوردة أو الخزفيات التي تُعرَض في اماكن الخمس نجوم التي يرتادها السياح، وقد يقتنون منها ربما قطعة زجاجية سورية للذكرى، فسارعت عند عودتي لقراءة و معرفة المزيد عن هذه الحرفة في سوريا! ا

صدمت  عندما علمت أنه لا توجد في سوريا الا عائلة واحد من ثلاث إخوة  تعمل في مشغلها القائم في أطراف دمشق الشرقية، في خان الزجاج. عائلة الحلاق هي العائلة الوحيدة التي بقيت تتوارث  هذه المهنة وهي  تصارع اليوم لبقائها بالرغم أن أطفالهم يرفضون تعلمها، فهي لم تعد مجدية مادياً

صحيح أن الحرب على سوريا دفعت هذه المهنة للتراجع لعدم توفّرالطلبات الكافية. و لكن الحقيقة ايضاً أن هذه الحرفة أُهملت تماما حتى قبل الحرب ولم تتلقِ الدعم الكافي الذي يضمن استمرارها او تنشيطها و توسعها.. هناك الكثير من التصريحات التي نقرأها في الصحف السورية المحلية أو من تصريحات المسؤولين في وزارة الصناعة خلال فترة الحرب واليوم تتحدث عن اهتمام  الحكومة بدعم الصناعة و الحرف اليدوية و لكن بالرغم من كل هذه التصريحات لم تلمس  صناعة الزجاج التقليدي أي دعم او تطوير ولا حتى الآلي الذي أصبح الآن  يطالب الوزارة في تسهيل عملية استيراد الزجاج للصناعة.. أتوقف هنا و أتساءل أين تذهب نفايات الزجاج إن لا تُستثمر في إعادة تدويرها و تساهم في صناعة الزجاج؟ و ماذا  ينقص بلد كسوريا لإحياء صناعة الزجاج الحرفية و استثمار الخبرات السورية لتزدهر هذه الحرفة و تنافس الزجاج العالمي مجدداً، و تنشط السياحة الداخلية والخارجية للقدوم الى ورشات الزجاج كما السويد؟

و عند سؤال السيد “طلال معلا”، وهو الفنان التشكيلي والباحث في الجماليات، اضافة الى نجاحه في تسجيل تراث مسرح الظل في منظمة اليونيسكو باسم سوريا بدعم من الأمانة السورية للتنمية، عن حال هذه الحرفة و كيفية توثيقها و الحفاظ عليها كما فعلو مع مسرح الظلّ، أضاف: حاولت كثيراً الالتفات لدعم صناعة الزجاج اليدوي بإعادة تشغيل أفران التكية السليمانية وتم وضع مخططات لمشروع متكامل للتشغيل لكامل المنطقة بما فيها الصناعات الزجاجية اليدوية لكن عوامل كثيرة حالت دون تحقيق المشروع ليست الحرب اولها ولا التشريعات آخرها.  لقد هجر المهنيون مواقعهم للعمل في لبنان (صيدا) ومواقع أخرى لعدم وجود سوق لبيع المنتجات في سوريا مع توقف الحركة السياحية وبفعل الحصار الاقتصادي … الخ

القصة تمتد لمحاولات إيجاد قوانين تحمي الحرفيين، وخاصة المهن التراثية والثقافية، وقد أنجزنا جزءاً هاماً  فيها لكنها لم تعتمد لعدم صدور قانون التراث الثقافي الجديد الذي عملنا عليه لسنوات

و لهذا تتراكب فان عوامل كثيرة في عمليات صون هذه المهن والحرف التقليدية وقد اشرت أنتِ الى ان الامر يحتاج الى توثيق و تسجيل الحرفة في اليونيسكو كما قمنا به في خيال الظل، فالعملية متكاملة لنقل المهنة من جيل الى جيل بأسلوب معاصر وضرورة دعم المتدربين لايجاد محترفاتهم من جهة، وتحقيق اسواق لمنتجاتهم التي لابد ان تأخذ لمسات عصرية

أن تنمية جزئية لموارد التراث الثقافي الوطني لاتكون ناجعة إلا في إطار سياسة ثقافية واضحة تركز على استثمار التراث الثقافي دون الإخلال بأصالته وقيمته الإنسانية والمجتمعية، فحرفة الزجاج اليدوي مرتبطة بمجاوراتها من الحرف والمهن الثقافية واذا كان قد تم تحويل اساليب استثمار الزجاج اليدوي من مكمل جمالي وثقافي واجتماعي الى كماليات تزيينية، فإن ذلك يقتضي التعمق في دراسة الموقع التنموي الذي يمكن ان تشغله هذه الحرفة على المستوى الإبداعي وضرورة الربط بينها وبين مهن صاعدة ومؤثرة كالتصميم الفني والمعماري وسواهما من مجالات استخدام المتج وابتكار أسواق معاصرة داخل البلاد وخارجها.. كما ان الربط بينها وبين حرف تزيينية أخرى يجري استخدامها في الديكورات كالعجمي والتصديف والمحفورات الخشبية وسواها من الحرف التراثية التي تعاني هي الأخرى من الهجرة والنزوح، ستشكل النظرة الرشيدة للسياسة الثقافية التي يمكن أن  توليها وزارة الثقافة طريقاً مهماً لاقتراح صون هذه المهن التراثية وطنياً قبل وصولها الى الصون العاجل في اليونسكو أو سواها

أصل صناعة الزجاج

في البداية تم استخدامه للزخرفة و للأعمال الفنية. و وفقاً لما دوّنه المؤرخ الروماني القديم، بليني الأكبر، فإن التجار الفينيقيين إكتشفوا مرّة عندما رست سفينة لهم محملة بالنيتروم على الشاطئ السوري وقاموا باستخدام كتل النيتروم لدعم أواني الطعام أثناء طهي طعامهم و إشعال النار من تحتها. دمجت النار النيتروم بالرمال و تدفق سائل شفاف تحوّل الى زجاج عندما برد

تقول مصادر أخرى أن مصر آيضاً دولة أخرى اشتهرت فيها صناعة الزجاج في وقت مبكر، يُعتقد أنّ أقدم جسم زجاجي تمّ إنشاؤه حوالي (3500) قبل الميلاد في مصر وشرق بلاد ما بين النهرين، أقدم عينات الزجاج من مصر وتعود إلى (2000) قبل الميلاد، في عام 1500 قبل الميلاد، كانت الصناعة راسخة في مصر، بعد 1200 قبل الميلاد تعلّم المصريون ضغط الزجاج في قوالب.

في القرن الأول الميلادي اكتشف السوريون أن الزجاج يمكن تشكيله بالنفخ في أنبوب نفخ زجاجي مجوف. مما ينتج عنه بهذه الطريقة كميات كبيرة من الزجاج الشفاف

 بما أن سوريا كانت تنتمي آنذاك إلى الإمبراطورية الرومانية،  انتشر فن نفخ الزجاج أيضاً من خلالها في أوروبا.  تم استخدام الزجاج في أهم المباني في روما وفي الفيلات الفاخرة في بومبي.  حتى العصور الوسطى، كان الزجاج يستخدم بشكل رئيسي في الكنائس والقصور.  في وقت لاحق ، تم استخدام النوافذ الزجاجية أيضًا في المباني العامة والنزل والمنازل التابعة للمواطنين الأثرياء

بقلم السيدة: فاديا رستم

تدقيق لغوي: أميمة ابراهيم

التواصل اللاعنفي

التواصل اللاعنفي، لغة تساعدنا على الاتصال بأنفسنا وبالآخرين لفهم كل منا الآخر، ونكتشف الطرق التي نستطيع بطبيعية وبطيب خاطر أن نساهم بها برفاه كل واحد منا

يرتكز التواصل اللاعنفي على عدة ركائز ومنه

 ٠ كل الناس يرغبون بالحصول على إشباع لحاجاتهم

٠ البشر يلبون الاحتياجات من خلال العلاقات المتبادلة، نحن نبني علاقات طيبة عندما نحقق هذه الحاجات من خلال التعاون وليس من خلال السلوك العدواني

٠ كل إنسان لديه موارد جديرة بالتقدير (قدرات، كفاءات)، تتجلى لنا عندما نتواصل معها من خلال التعاطف

٠ وراء كل سلوك حاجة وجميع الإجراءات هي محاولات لتلبية الاحتياجات

٠ كل حاجة تفيد الحياه

٠ لا توجد حاجات سلبية

٠ كل البشر لديهم القدرة على التعاطف

٠ البشر يتمتعون بالعطاء

٠ البشر يتغيرون

٠ الاختيار داخلي

٠ الطريق الأكثر مباشرة إلى السلام هو من خلال التواصل مع الذات

يهدف التواصل اللاعنفي إلى

١- بناء علاقات مشبعة (باعثة على الرضا) والحفاظ عليها

٢- إشباع حاجاتنا من دون إلحاق الأذى

٣- تغيير التواصل المؤلم وقلب الصراعات

يعتمد هذا المنهج ننعلى مكونات أربعة

الملاحظة: في البداية نحن نلاحظ ما يحدث فعلياً في الموقف: ما يحدث في داخلنا/ما نقوله أو نفعله/ ما يقوله أو يفعله الآخرون

الشعور أو الإحساس: نميز هنا بين المشاعر والأحاسيس من جهة والأفكار أو المعتقدات من جهة أخرى. الشعور أو الاحساس بالوقت الراهن، الخطوة الثانية نحن نعبر عن ماذا أشعر أو ماذا أحس في الوقت الراهن وليست أفكار

الحاجات: تتوضح أهمية الحاجات انطلاقاُ من ركائز أساسية في التواصل اللاعنفي مثل

الطلب: إن أهم ما يساعدنا على التمييز بين الطلب والتطلب، هو انفتاحنا على سماع ال “لا” على ما نطلبه، عندما تأتي “اللا” منالطرف الاخر وتكون انفعالاتنا عالية جداً بعد سماعها، هذا يعني أن هذا تطلب وليس طلب انساني

يوظف التواصل اللاعنفي في ثلاثة مناحي، هي التعبير عن الذات، الإصغاء التعاطفي، والتعاطف مع الذات. في سعي لإحياء ما فينا، وإثراء الحياة

بقلم الدكتور: سليمان كاسوحة

علم الوراثة اللاجيني

《أمي لم تخبرني بشيء أبداً لكن هذا ماحصل لأبي ، أنا أعرف ذلك》

ذكرياتنا صنعت من عدة أجزاء نبلورها ونطورها من قصص نحتار تصديقها تلك القصص التي تروي مسار شخصياتنا والتي تشكل سرداً داخلياً مؤلفاً من مشاهد وخلاصات وطرائف ملونة بلمسات من الحقيقة وبعض الافتراضات

نحن نميل لاعتبار وجودنا من خلال هذه الذكريات والتي غالباً مايكون مبالغاً فيها إلا أنها تسمح لنا بفهم أساس قوتنا وضعفنا، لكن مفهوماً جديداً مثير للاهتمام يقول لنا أنه من الممكن توريث الذكريات . إذاً بعض التجارب المؤلمة والصدمات التي تعرض لها أجدادنا قد تعود لنا حاملة معها أثراً من ماضٍ بعيد وإن لم نكن جزءاً منه لكنه سيكون موجوداً فينا حتى قبل ولادتنا معلومات جديدة من شأنها أن تهيئ الأجيال لمخاوف قديمة أو لتجربة نفس الأخطار التي عاشها الأجداد والنجاة منها فمن سيقدم لنا التفسيرات ؟!

– أتذكر القصص التي رويت لي عن جدتي كيف حملت طفليها ” طفل تحت كل ذراع” حين هربت من القنابل التي أمطرت سماء مدينتها اليابانية 1945 ، جدي كان مقاتلاً يحارب في مكان آخر.  الأهوال التي أحاطت بها والشجاعة التي أظهرتها لحماية عمي وعمتي هل انتقلت إلى والدي عند ولادته ثم انتقلت إلي ؟ هل هذه الذكريات محفورة في كياني ولو بشكل جزئي هل تعود شجاعتي وربما قلقي إلى تجربة جدتي ؟ تبدو لي الفكرة معقولة ولا تخلو من الشاعرية.

هذا ما ترويه كارمن ماريا ماتشادو في قصتها القصيرة التي حملت عنوان : نجمة موجزة وخائفة (A brief and fearful star)

إن هذه الطريقة في التفكير والتحليل النفسي هي التي تجعل مفهوم هذا العلم épigénétique مثيراً للاهتمام رغم أنه حديث العهد ومثير للجدل إلا أن الخبراء يسعون في هذا المجال للإجابة على سؤال محدد لشخص ما

عندما تغير تجربة ما السمة الجينية (expression  de gène)  هل سينقل هذه التغييرات إلى نسله  وماهو تأثير هذه التغييرات على صحة وسلوك أحفاده؟

إن مثل هذه التساؤلات تحفز الخيال وتثير فكرة ذاكرة التجارب المختزنة والتي تنتقل عبر الأجيال.

épigénom التعرض للعالم الخارجي قد يؤدي إلى تغيير في

(يُشير مصطلح “ما فوق ” الجينوم ” (بالإنجليزية: Epigenome) يشير إلى سجل التغيرات الكيميائية الفوق جينية في الحمض النووي وبروتينات الهيستون لكائن حي؛ يمكن أن تنتقل هذه التغييرات إلى نسل الكائن الحي عبر الوراثة الفوق جينية العابرة للأجيال. يمكن أن تؤدي التغييرات في ما فوق الجينوم إلى تغييرات في بنية الكروماتين وتغييرات في وظيفة الجينوم، ولكن من غير تغيير تسلسل الحمض النووي على الإطلاق

ملأت الأبحاث الأولى في هذا المجال أذهان القراء بالأسئلة والاحتمالات ويمكن أن نذكر بعض هذه الدراسات التي سلطت الضوء على احتمال وجود بصمة جينية مؤلمة في أحفاد ضحايا المحرقة أو ضحايا المجاعات فهل يمكن للمرء أن يرث ذكريات عن العبودية أو الإبادات الجماعية، الفقر ، سوء المعاملة …؟

نحن نعلم أن الخصائص البشرية يمكن أن تنشأ من التعليم والفرص المتاحة أو حتى من طفرات عشوائية لكن ما نوع الخصائص التي يمكن أن تنتقل إلينا من خلال رحلة الأسلاف التي لا نعرف عنها شيئاً في كثير من الأحيان

وفقاً لعلم الوراثة اللاجينية أو فوق جينية فإن الحياة التي نعيشها اليوم متأثرة بالعوامل البيئية مثل الإجهاد والضغوط او النظم الغذائية وهي من تؤثر على المورثات البيولوجية لأطفالنا وأحفادنا كما تأثرنا نحن بأسلافنا بنفس الطريقة منذ زمن بعيد

بالعودة إلى قصة كارمن ماريا ماتشادو ” التي تتجاوز المعارف العلمية الحالية” ذكريات الأم تتردد في جسد ابنتها التي تشعر بتأثيرها دون أن تفهم طبيعتها – تتحدث مباشرة إلى القارئ- 《أعلم أن شعورنا بدا وكأننا أول من يطأ هذه الأرض لكننا تعرضنا للضرب من قبل وحوش أكثر من كونهم بشراً 》 تتحدث هنا عن تجارب لم تعشها بالفعل لكن يبدو لها أنها عاشتها بكل تفاصيلها التي ربما حملتها معها قبل ولادتها كما لو أن هذه الذكريات محفورة في خلايا جسدها  . إنه سرد قوي ومؤثر لكن العلم لم يؤكد بعد هذه النظرية لنعد معاً إلى الواقع بعيداً عن هذه القصة المؤثرة ، العلم لا يسمح لنا بعد بالتأكيد على أن جينات الطفل يمكن أن تحافظ على بقايا تجارب أسلافه أو أن الذاكرة الخلوية

البشرية يمكن أن تنتقل إلى الأجيال القادمة

{التشويق الذي يثيره علم الوراثة اللاجيني يتجاوز تقدير العلماء }

يقول الباحث جيمي هاكيت : إن فكرة أن جزءاً منا جاء من أفعال وخبرات أسلافنا هي فكرة فلسفية نوعاً ما

أجرى هذا الباحث دراسة على الفئران عام 2013 في جامعة كامبردج أظهرت أنه من الممكن أن تنتقل بعض الصفات اللاجينية في الثدييات إلى الأجيال اللاحقة ويتم ذلك عبر “epigenome” وهي شبكة من الجزئيات تلتصق بالجينات مثل الضباب الذي يلتصق بالزجاج هذه الجزئيات تنسق النشاط الجيني ويمكن أن يؤدي التعرض للعالم الخارجي إلى تغيير هذه الصفة والذي بدوره يؤثر على قابليتنا للمرض وعلى سلوكنا بشكل عام .

يسعى جزء من البحث في علم الوراثة هذا إلى فهم الأشكال المختلفة الموجودة في جيناتنا طريقة عملها والصفات التي تحملها وكيف يمكن أن تؤثر على خصائص معينة وكيف يمكن أن تنتقل عبر الأجيال ، يعتبر بحث هاكيت مهماً من الناحية العلمية فحتى الآن يعتقد الكثير من العلماء أن التغييرات التي تسببها هذه العلامات يتم إعادة تصنيعها في الثدييات نفسها ولم تنتقل إلى الأبناء ، يعمل Hacket الآن في مختبر للبيولوجيا الجزيئية ويواصل دراسة إعادة البرمجة و الوراثة اللاجينية باستخدام تقنيات CRISPR ” إعادة تحرير الجينات ” إن هذا العلم كغيره من المفاهيم العلمية المثيرة للاهتمام وللجدل خاصة عندما تتجاوز إدراك العلماء لها .

الانبهار يؤدي إلى المبالغة في النتائج

اتفق الباحثون على نقطة واحدة : هناك بعض الدراسات التي تظهر فيها الوراثة اللاجينية في النباتات والديدان والتي تنقل الذكريات والخبرات إلى نسلها حيث وجد الباحثون الذين قاموا بإجراء تعديل وراثي على الدودة المستديرة (caenorhabditis elegans  )

لجعلها أكثر ذكاء وتأقلماً بأن عرضوها لدرجات حرارة أعلى بشكل مؤقت وتدريجي مما أحدث فعلاً تغييرات في صفاتها الجينية وجعلها أكثر تأقلماً مع الحرارة  كما أن هذه الديدان نقلت هذه التغييرات إلى نسلها الذي كان أكثر ذكاء من نظرائه الآخرين دون أن يتعرض للحرارة التي تسببت في حدوث هذه التغييرات في آبائهم

أما الأبحاث التي تتعلق بالبشر وباقي الثدييات فهي أقل تقدماً بكثير مما تم إثباته في الأبحاث التي أجريت على النباتات والديدان ومع ذلك فإن الانبهار بهذا المفهوم غالباً مايؤدي إلى نتائج مبالغ فيها كما صرح جون غريلي أستاذ علم الوراثة وطب الأطفال في كلية آلبرت آينشتاين في نيويورك :

إذا تم تصديق مقال شيكاغو الشهير حول دراسة <نقل الصدمة> للناجين من الهولوكوست مثير للجدل من حيث حجم العينة المحدود التي أجريت عليها الدراسة فقد اعتمد الباحثون في كثير من الأحيان على الارتباطات دون تسليط الضوء على الأسباب والنتائج بشكل تفصيلي دقيق ، إن مفهوم الوراثة اللاجينية هو بالتأكيد موضوع خيالي شيّق وجميل لكن من السابق لأوانه التأكيد بأن البشر يرثون بالفعل تجارب أسلافهم في الوقت الحالي يقوم العلماء بجمع الأدلة قائلين لنا : امنحونا بعض الوقت

المختصين في هذا المجال لديهم فكرة واحدة وهي إيجاد الآليات المحتملة لهذه العملية

هذا النقص في الاكتشافات الحاسمة يرجع أيضاً إلى تعقيد الجنس البشري حيث لم يتمكن الباحثون من فهم مدى تأثير البيئة على الجينات لدينا وهل يمكن أن تنتقل هذه السمات إلى الأبناء في الثدييات ؟ أي منها يمكن مقاومة عملية إقصاء متكاملة لبعض الجينات والتي قد تحدث أثناء التكاثر ؟ !

إن هذه الأسئلة لا يوجد إجابات موحدة عليها فالخلافات مازالت قائمة بين العلماء ويعتقد هاكيت مثل العديد من زملائه أن بعض التعديلات تبقى أثناء عملية الإقصاء لكن لا يوجد ما يشير إلى أنها انتقلت للأجيال اللاحقة.

على صعيد آخر حتى لو تمكنت بعض بقايا الصفات الجينية من شق طريقها فليس من المؤكد أنها تمكنت حقاً من التأثير على الخصائص التي وجدت عند الأحفاد ، يوضح هاكيت

لم يتوصل الباحثون إلى إجماع حول هذه الفكرة وهذا أمر مؤكد لكننا ربما نشهد تفاؤلاً حذراً فلا خيار أمام العلماء سوى مواصلة عملهم والعثور على إجابات. الخبراء في هذا المجال لديهم شيء واحد في الحسبان وهو : العثور على الآليات المحتملة لهذه العملية

ذلك حتى نفهم بالضبط كيف يتم نقل المعلومات لكننا حتى الآن لا نستطيع القول بثقة وضمير حي أن هذه بالفعل عملية وراثة عبر الأجيال

أكبر الصناديق السوداء

في انتظار ما سوف تكشفه الأبحاث العلمية نستطيع أن نكتفي بالقصص فالخيال يساعدنا على تصور واسع للاحتمالات 《 أمي لم تخبرني أبدا لكن هذا ماحصل لأبي أنا أعرف ذلك 》 تكمل كارمن ماتشادو في قصتها 《 أحاط النهر بأبي وأمسكه بأصابع مفترسة وحمله تحت الأمواج في نصف ثانية 》 يوحي هذا الأسلوب في السرد بشعور من الألفة وكأنه مشهد من فيلم سينمائي تحضره الطفلة رغم أنها  في الواقع لم تكن موجودة لكن في أعماقها بدا لها العكس.

لا يمكننا العودة بالزمن إلى الوراء هذا أمر أكيد لن نستطيع اكتشاف عقول أجدادنا واستعادة لحظاتهم الحميمية حتى عندما نسترجع ذكرياتنا مع ذلك فإن البحث في علم الوراثة /مافوق جيني رغم كونه مازال حديثاً قد يلقي الضوء على آثار انتقال الذكريات والمشاعر كالخوف مثلاً إلى مسارات أخرى.

تحتوي قصة كارمن ماريا ماتشادو على العديد من المشاهد المؤثرة وبعضها يشير بشكل غير مباشر الى هذه العملية (الذاكرة الموروثة) حيث تشاهد الطفلة والدتها وهي تحاصر الفئران التي تخرج من شقوق الجدران في منزلهم …تنجذب القوارض إلى زيت ذو رائحة مرّة ينزلق على الألواح تمكن بعضهم من الهروب في النهاية جاءت فئران جديدة  صغيرة لاحظت لاحقاً أن نسلهم يهربون بمجرد أن يكتشفوا الزيت كما لو أن تلك الرائحة تحمل تاريخاً مروّعاً

لم نقم بإجراء اختبار يثبت أن الرائحة قد تستحضر ذكريات مرتبطة بالخوف

تتناول هذه الفقرة دراسة تجريبية قام بها الباحثان برايان دياس وكيري ريسلر في جامعة ايموري آتلانتا حيث سكب الباحثان مادة الأسيتوفينوس وهي مادة كيميائية عطرية في أقفاص مجموعة من ذكور الفئران تشبه رائحة زهر البرتقال والكرز في الوقت نفسه أرسلا صدمات كهربائية عبر أقدام الفئران حتى انتهى الأمر بالفئران إلى ربط هذه الرائحة بالإحساس المزعج وعندما أخضع الباحثون الجيلين التاليين لعطور الاسيتوفينون أظهر نسل الفئران المحفزة كهربائياً استجابة قوية للشم رغم أنهم لم يكونوا على اتصال مع آبائهم ولم يتم تعريضهم لتلك الرائحة وتلك الصدمات معاً من قبل . كان الأمر كما لو أن الخوف المرتبط بالرائحة قد انتقل إليهم ومع ذلك كما يشير دياس ربما ورثوا ببساطة فرط الحساسية لنفس الرائحة …. لم نقم بعد باختبار يثبت أن الرائحة تسبب رد فعل الخوف

لم يحدد ريسلر ودياس الإجراءات الدقيقة لانتقال هذا التفاعل مع ذلك يعتقدان أن عملية وضع العلامات فوق الجينية (مثيلة الحمض النووي) يمكن أن تفسر هذا الإرث ويدعم العديد من المختصين هذه الفرضية ( la méthylation ) هو تغيير وتعديل ذو وجهين يطرأ على المواد الكيميائية حيث تلتصق بجزيئات الحمض النووي نفسه دون أن يتغير التسلسل الحمضي لكن من الممكن لهذه الجزئية أن تعطل أو تفعّل نشاط ما على الجينات فإذا ظهرت علامات المثيلة نفسها في نفس المواقع الجينية في النسل هل من الممكن أن يرث هؤلاء نفس الأنماط أيضاً ؟ هل تأتي هذه العلامات بسبب عوامل بيئية أم تتشكل في الرحم ؟ هذه هي الأسئلة الحالية للباحثين.

يشير دياس إلى أن بعض التجارب البيئية ( كالعمر المتقدم للأب على سبيل المثال ) قد تؤثر على العلامات الجينية التي بدورها ستؤثر أيضاً على النسل المستقبلي لكن عندما ننظر إلى التجارب الماضية  كالإجهاد ، الضغوط ، تغييرات النظام الغذائي ، الهزائم ، الصدمات…..والتي ليست ملموسة بحد ذاتها اعتقد من الضروري فهم كيف يمكن لهذه التجربة غير القابلة للقياس أن تشق طريقها إلى خط الخلية وتعطينا نمطاً وراثياً إن هذا هو أكبر الصناديق السوداء هنا حقاً يتم سحب الخيوط .

دراسة جديدة على البشر والفئران

يهتم باحثون آخرون مثل لاري فيج Larry Feig -أستاذ البيولوجيا الجزيئية والكيميائية في كلية الطب جامعة Tuftus- بتأثير ال  micro-RNA الذي يمكن أن ينتج عنه تأثيرات على الجينات وفق بحث جديد يظهر حدوث تعديلات وتغييرات على سمات الجينات وقد تنتقل عبر الأجيال

في هذه الدراسة الجديدة من مختبر لاري فيج بحث العلماء micro-RNA في السائل المنوي للرجال الذين تعرضوا لسوء المعاملة أو الإهمال في طفولتهم واكتشفوا نوعين من ال micro-rna كان أقل بكثير في عيناتهم مقارنة بغيرهم ، وعندما عرّض الباحثون ذكور الفئران لعوامل إجهاد في وقت مبكر وجدوا أيضا مستويات منخفضة من نفس الحمض النووي الريبي الدقيق في الحيوانات المنوية للفئران

عندما تزاوج ذكور الفئران مع إناث لم تتعرض لهذه المواقف العصيبة كانت التغييرات موجودة في أجنة ذريتهم حتى بعد جيلين

يبقى لنا أن نرى ماهي هذه الآثار السلوكية والجسدية ؛ وجد فريق الباحثين في مختبر لاري أن ذرية الذكور المجهدة سابقاً بدت معادية وقلقة وأظهرت خصائص مرتبطة بالتوتر ؛ يقول لاري : لا نعرف حتى الآن إذا كان القلق الشديد والاختلال الوظيفي لدى ذرية الإناث للذكور المجهدين يرجع إلى التغييرات التي لوحظت في الأجنة

إذا كان هذا تغييراً مستقراً في خط البذرة إذا هو تغيير من الممكن نقله من جيل لآخر

يؤكد لاري وبدقة أن مختبره سيجري دراسة أكبر وأوسع على البشر والفئران لتعميق هذه النتائج الأولية فإذا كانت هذه التغييرات تنتقل بالفعل في البشر كما في الفئران فيجب استنتاج أنها تنتقل عبر خط المنشأ-البذرة/الجرثومة- سيكون هذا الاكتشاف مثيراً للجدل وسيطرح أسئلة من المحتمل أن تغير نظرتنا للحياة على الأرض وإذا كان هذا تغييراً مستقراً في السلالة الجرثومية والحيوانات المنوية والبويضات فهذا تغيير يمكن أن ينتقل إلى الأبد من جيل إلى جيل مما سيؤثر حتماً على مفهومنا للتطور.

توضح قصة ماتشادو الشعور الغريب الذي عشناه جميعاً في وقت من الأوقات وكأننا لمسنا سراً لا يمكن وصفه 《 لم أكن أنتمي إلى هذه الجزيرة ؛ لقد اختاروا لي طريقاً لم أكن لأختره أنا ومع ذلك سلكته ، كيف لي أن أتجاهل كل هذا ؟ هل كنت أعرف هذا من قبل ؟

أود أن أصدق أن المختصين في علم الوراثة هذا يشعرون بالشيء نفسه بأنهم في هذه المرحلة من أبحاثهم على وشك القيام باكتشاف ثوري ربما يكون قادراً على حل أحد ألغاز البشرية ومساعدتنا لعلاج أسوأ أمراضنا ، أود أيضاً أن أصدق أن أجزاء من لحظات جدتي محفورة في جيناتي إنها فكرة جميلة حقاً 》

في النهاية وحتى هذه اللحظة لا يمكن للبحث العلمي أن يعطينا إجابة حاسمة ونهائية كما يقول جيمي هاكيت :

《مازال مبكراً الإعلان عن أي شيء حالياً هذه هي الحقيقة 》 …

Erika Hayaski

ترجمة للفرنسية :

Jean Clément Nau

ترجمة للعربية :

Roxane Simonet

Note :

1- Micro-RNA : الرنا الميكروي أو ميكرو آر أن إيه أو ميكرو حمض نووي ريبوزي أو ميكرو رنا (بالإنجليزية: microRNA) ‏ هو جزيء رنا مسؤول عن ضبط التعبير الجيني.ينشأ في النواة عن طريق عملية النسخ الإنزيمي للجينات المسؤولة عن إنتاجه. يحتوي جينوم الإنسان على المئات من هذه الجينات

2- Expression de gène : التعبير الجيني التعبير الجيني  هو العملية التي يتم من خلالها استخدام المعلومات الجينية لاصطناع منتجات جينية الوظيفية. هذه المنتجات قد تكون بروتينات (يتم صنعها باستخدام المعلومات من الرنا الرسول)، أو قد تكون أحد الأنواع العديدية من الأحماض النووية الريبوزية، مثل الرنا الريبوسومي (rRNA)، الرنا الناقل (tRNA) والرنا النووي الصغير (snRNA)

مقالات ذات صلة

Website Built with WordPress.com.

Up ↑